فصل: تفسير الآية رقم (66):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (65):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [65].
{وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يسمعه من تآمرهم في إيصال مكروه له، ومجاهرتهم بتكذيبه، ورميه بالسحر ونحوه، أي: لا تتأثر بقولهم، وشاهد عز الله وقهره، لتنظر إليهم بنظر الفناء وترى أعمالهم وأقوالهم، وما يهددونك به كالهباء، فمن شاهد قوة الله وعزته يرى كل القوة والعزة له، لا قوة لأحد ولا حول. فقوله تعالى: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّه} [النساء: من الآية 139]، تعليل للنهي على طريقة الاستئناف، كأنه قيل: ما لي لا أحزن؟ فقيل: إن العزة لله، أي: الغلبة والقهر في ملكته وسلطانه لا يملك أحد شيئاً منها أصلاً، لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم، وينصرك عليهم: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: من الآية 21] {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: من الآية 51]، وقوله: {هُوَ السَّمِيعُ} أي: لأقوالهم فيك، فيجازيهم: {الْعَلِيمُ} أي: لما ينبغي أن يفعل بهم.

.تفسير الآية رقم (66):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [66].
{أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ} أي: كلهم تحت ملكته وتصرفه وقهره، لا يقدرون على شيء بغير إذنه ومشيئته وإقداره إياهم. وقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} تأكيد لما سبق من اختصاص العزة به تعالى، لتزيد سلوته صلوات الله عليه، وبرهان على بطلان ظنونهم وأقوالهم المبنية عليها. وفي {ما} من قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ} وجهان:
أحدهما: أنها نافية، و{شركاء} مفعول {يتبع}، ومفعول {يدعون} محذوف لظهوره. أي: ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، شركاء في الحقيقة، وإن سموها شركاء لجهلهم، فاقتصر على أحدهما لظهور دلالته على الآخر. ويجوز أن يكون {شركاء} مفعول {يدعون}، ومفعول {يتبع} محذوف لانفهامه من قوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} أي: ما يتبعون يقيناً، إنما يتبعون ظنهم الباطل.
والوجه الثاني: أنها استفهامية، منصوبة بـ: {يتبع} و{شركاء} مفعول {يدعون} أي: أي: شيء يتبع هؤلاء؟ أي: إذا كان الكل تحت قهره وملكته فما يتبعون من دون الله ليس بشيء، ولا تأثير له ولا قوة، إن يتبعون إلا ما يتوهمونه في ظنهم، ويتخيلونه في خيالهم، وما هم إلا يُقَدِّرُونَ وجودَ شيء لا وجود له في الحقيقة.
ثم نبه تعالى على انفراده بالقدرة الكاملة، والنعمة الشاملة، ليدل على توحده سبحانه باستحقاق العبادة، بقوله:

.تفسير الآية رقم (67):

القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [67].
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أي: خلقه لكم لتستقروا فيه من نصبكم وكلالكم: {وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} أي: مضيئاً، تبصرون فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم.
قيل: الآية من باب الاحتباك. والتقدير: جعل الليل مظلماً لتسكنوا فيه، والنهار مبصراً لتتحركوا لمصالحكم، فحذف من كل من الجانبين ما ذكر في الآخر، اكتفاء بالمذكور عن المتروك. وإسناد الإبصار إلى النهار مجازي، كقوله:
ما ليل المحب بنائم

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: لجعل المذكور: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: هذه الآيات ونظائرها سماع تدبر واعتبار.
ثم شرع في نوع آخر من أباطيلهم بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (68):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [68].
{قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} تنزيه له عن أن يجانس أحداً، أو يحتاج إليه، وتعجب من كلمتهم الحمقاء: {هُوَ الْغَنِيُّْْ} أي: الذي وجوده بذاته، وبه وجود كل شيء، فكيف يماثله شيء؟! ومن له الوجود كله فكيف يجانسه شيء؟! والجملة علة لتنزيهه، وإيذان بأن اتخاذ الولد من أحكام الحاجة، إما للتقوي به، أو لبقاء نوعه: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ} تقرير لغناه، أي: فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولداً: {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} أي: ما عندكم من حجة بهذا القول الباطل توضيح لبطلانه، بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض، أي: ليس بعد هذا حجة تسمع. والمراد تجهيلهم، وأنه لا مستند لهم سوى تقليد الأوائل، وإتباع جاهل لجاهل.
تنبيه:
دلت الآية على تسمية البرهان سلطاناً.
قال الإمام ابن القيم في مفتاح دار السعادة: إنه سبحانه سمى الحجة العلمية سلطاناً. قال ابن عباس رضي الله عنه: كل سلطان في القرآن فهو حجة، وهذا كقوله تعالى: {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} يعني ما عندكم من حجة بما قلتم، إن هو إلا قول على الله بلا علم. وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: من الآية 23]، يعني ما أنزل بها حجة ولا برهاناً، بل هي من تلقاء أنفسكم وآبائكم. وقوله تعالى: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} يعني حجة واضحة. إلا موضعاً واحداً اختلف فيه، وهو قوله: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ}، فقيل: المراد به القدرة والملك، أي: ذهب عني مالي وملكي، فلا مال لي ولا سلطان، قيل: هو على بابه، أي: انقطعت حجتي وبطلت، فلا حجة لي. والمقصود: أن الله سبحانه سمى علم الحجة سلطاناً؛ لأنها توجب تسلط صاحبها واقتداره، فله بها سلطان على الجاهلين، بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد، ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد، فإن الحجة تنقاد لها القلوب، وأما اليد فإنما ينقاد لها البدن. فالحجة تأسر القلب وتقوده، وتذل المخالف وإن أظهر العناد والمكابرة، فقلبه خاضع لها ذليل، مقهور تحت سلطانها. بل سلطان الجاه إن لم يكن معه علم يساس به، فهو بمنزلة سلطان السباع والأسود ونحوها، قدرة بلا علم ولا رحمة، بخلاف سلطان الحجة، فإنه قدرة بعلم ورحمة وحكمة، ومن لم يكن له اقتدار في علمه، فهو إما لضعف حجته وسلطانه، وإما لقهر سلطان اليد والسيف له، وإلا فالحجة ناصرة نفسها، ظاهرة على الباطل قاهرة له- انتهى-.
{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} توبيخ وتقريع على جهلهم. قال الزمخشري: لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله، فذاك جهل وليس بعلم.
وقال أبو السعود: فيه تنبيه على أن كل مقالة لا دليل عليها، فهي جهالة، وأن العقائد لابد لها من برهان قطعي، وأن التقليد بمعزل من الاعتداد به.

.تفسير الآيات (69- 70):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [69- 70].
{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} باتخاذ الولد، وإضافة الشركاء: {لاَ يُفْلِحُونَ} أي: لا يفوزون بمطلوب أصلاً {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} مبتدأ خبره محذوف، أي: لهم تمتع يسير في الدنيا: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي: الموت: {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} أي: بسبب كفرهم. والآية لبيان أن ما يتراءى من فوزهم بالحظوظ الدنيوية بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح. كأنه قيل: كيف لا يفلحون وهم في غبطة ونعيم؟ فقيل: هو متاع يسير في الدنيا، وليس بفوز بالمطلوب.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (71):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ} [71].
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} أي: خبره الذي له شأن وخطر، مع قومه المغتريين بعزة الأموال والأعوان، ليتدبروا ما فيه من صحة توكله على الله، ونظره إلى قومه، بعين عدم المبالاة بهم، وبمكايدهم، وزوال ما تمتعوا به من النعيم، بإغراقهم بالطوفان، فلعلهم يكفون عن كفرهم، وتلين أفئدتهم ويستيقنون صحة نبوتك: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ} أي: شق وثقل: {عَلَيْكُم مَّقَامِي} أي: مكاني، يعني نفسه، أو مكثي بين أظهركم مدداً طوالاً، ألف سنة إلا خمسين عاماً، أو قيامي بالدعوة إلى الله، من رؤيتكم ذلتي بقلة الأموال والأعوان، ومنع عزتكم بهما عن الانقياد لي: {وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ} أي: بحججه وبراهينه، أو تخويفي بعذابه: {فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ} أي: عمدت في دفع ما قصدتموني به: {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ} أي: شأنكم في إهلاكي: {وَشُرَكَاءَكُمْ} يعني آلهتهم وهو تهكم بهم، أو نظراءهم في الشرك. والواو بمعنى مع، أو معطوف على {أمركم} بحذف المضاف، أي: وأمر شركائكم، أو منصوب بمحذوف، أي: ادعوا شركاءكم، وذلك لأن أجمع يتعلق بالمعاني، يقال: أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه: {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي: مستوراً، من: غمه إذا ستره بل مكشوفاً تجاهرونني به: {ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ} أي: أدوا إلي ذلك الأمر الذي تريدون بي: {وَلاَ تُنظِرُونِ} أي: ولا تمهلوني.

.تفسير الآية رقم (72):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [72].
{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي: عن الإيمان بما جئتكم به: {فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ} أي: جُعْلٍ على عظتكم، أي: فلا باعث لكم على التولي والنفور: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ} أي: ما ثوابي على التذكير إلا عليه تعالى، يثيبني به، آمنتم أو توليتم: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. أي: المستسلمين له وحده بالإيمان به، ونبذ كل معبود دونه.

.تفسير الآية رقم (73):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} [73].
{فَكَذَّبُوهُ} يعني نوحاً بما جاءهم عناداً، بعد أن قامت عليهم الحجة، فحقت عليهم كلمة العذاب، وأرسل عليهم الطوفان {فَنَجَّيْنَاهُ} أي: من الغرق: {وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} أي: خلفاء عن المغرَقين وعمَّار الأرض: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} أي: منتهى أمرهم. والمراد بـ: {المنذرين} المكذبين. والتعبير به إشارة إلى إصرارهم عليه، حيث لم يفد الإنذار فيهم. وقد جرت السنة الربانية أن لا يهلك قوم بالاستئصال إلا بعد الإنذار؛ لأن من أنذر فقد أعذر. وفي الأمر بالنظر تهويل لما جرى عليهم، وتحذير لمن كذب الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له.

.تفسير الآية رقم (74):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ} [74].
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد نوح: {رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ} يعني هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً {فَجَاؤوهُم بِالْبَيِّنَاتِ} أي: الآيات الدالة على صدقهم، المفيدة هدايتهم: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي: بسبب تعودهم تكذيب الحق، وتمرنهم عليه؛ لأنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية، مكذبين بالحق فحالهم بعدها كحالهم قبلها، هذا على أن ضمير {كانوا} و{كذبوا} لقوم الرسل. وجاز عود ضمير {كانوا} لقوم الرسل، و{كذبوا} لقوم نوح. أي: ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح أي: بمثله {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ} أي: المجاوزين مقتضيات حقائق الأشياء بخذلانهم.

.تفسير الآية رقم (75):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} [75].
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم} أي: من بعد هؤلاء الرسل: {مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا} يعني التسع: {فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} أي: كفاراً ذوي آثام عظام.

.تفسير الآية رقم (76):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} [76].
{فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا} يعني الآيات المزيحة للشك: {قَالُواْْ} يعني من فرط التمرد: {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: تلبيس ظاهر.

.تفسير الآية رقم (77):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [77].
{قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ} أي: على وجه لم يترك لكم شبهة مقالتكم الحمقى من أنه سحر، فحذف المحكي المقول لدلالة الكلام عليه. ثم قال: {أَسِحْرٌ هَذَا} استفهام إنكار من قول موسى لا من قولهم. فهو مستأنف لإنكار كونه سحراً، وتكذيب لقولهم، وتوبيخ لهم على ذلك إثر توبيخ. وليس: {أَسِحْرٌ هَذَا} مقولهم، لأنهم بتوا القول بأنه سحر، فكيف يستفهمون عنه؟- كذا قيل-.
ولا أرى مانعاً من أن يكون مقولهم، والهمزة وسطت مزيدة لتكون مؤكدة لما قبلها من الاستفهام، ومن لطائفها الاحتراس عن إيهام فاعلية سحر لـ: {جَاءكُمْ} بادئ بدء، وأسلوب القرآن فوق كل أسلوب. أو الهمزة ومدخولها من مقولهم لقولهم الذي بتوا عليه أمرهم. ثم رأيت الناصر في الانتصاف أشار لهذا حيث قال:
وأما القراءة الثانية- يعني قراءة {آالسحر}- على الاستفهام ففيها- والله أعلم- إرشاد إلى أن قول موسى أولاً: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} حكاية لقولهم، ويكون: {أَسِحْرٌ هَذَا} هو الذي قالوه، ولا يناقض ذلك حكاية الله عنهم أنهم قالوا: {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} وذلك إما لأنهم قالوا الأمرين جميعاً، بدؤوا بالاستفهام على سبيل الاستهتار بالحق والاستهزاء بكونه حقاً، والاستهزاء بالحق إنكار له، بل قد يكون الاستفهام في بعض المواطن أبتَ من الإخبار. ألا ترى أنهم يقولون في قوله: أأنت أم سالم، أبلغ في البت من قوله مخبراً أنت أم سالم. ثم ثنوا بصيغة الخير الخاصة ببت الإنكار، ودعوى أنه سحر، فقالوا: {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} فحكى الله تعالى عنهم هذا القول الثاني، ووبخهم موسى على قولهم الأول، ومعنى العبارتين ومآلهما واحد. وإما ألا يكونوا قالوا سوى: {أَسِحْرٌ هَذَا} على سبيل الإنكار حسبما تقدم، فحكاه الله تعالى عنهم بمآله؛ لأنه يعلم أن مرادهم من الاستفهام الإنكار، وبتَّ القول أنه سحر، وحكى موسى عليه السلام قولهم بلفظه، ولم يؤده بعبارة أخرى. وحكاية القصص المتلوة في الكتاب العزيز بصيغ مختلفة، لا محمل لها سوى أنها معان منقولة إلى اللغة العربية، فيترجم عنها بالألفاظ المترادفة المتساوية المعاني.
وحاصل هذا البحث أن قول موسى عليه السلام: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} إنما حكى فيه قولهم، ويرشد إلى ذلك أنه كافأهم عند ما أتوا بالسحر بمثل مقالتهم مستفهماً، فقال: {ما جئتم به آالسحر} على قراءة الاستفهام قرضاً بوفاء على السواء، والذي يحقق لك أن الاستفهام والإخبار في مثل هذا المعنى مؤداهما واحد أن الله تعالى حكى قول موسى عليه السلام: {مَا جِئْتُمْ بِهِ} السحر على الوجهين: الخبر والاستفهام، على ما اقتضته القراءتان وهو قول واحد، دل أن مؤدى الأمرين واحد، ضرورة صدق الخبر.
وإنما حمل الزمخشري على تأويل القول بالتعييب أو إضمار مفعول تقولون استشكال وقوع الاستفهام محكياً بالقول، والمحكى عنهم الخبر، وقد أوضحنا أن لا تنافر ولا تنافي بين الأمرين.
قال الناصر: فشد بهذا الفضل عرى التمسك، فإنه من دقائق النكت، والله الموفق.
وقوله تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} من كلام موسى قطعاً، أتى به تقريراً لما سبق؛ لأنه لما استلزم كون الحق سحراً، كون من أتى به ساحراً، أكد الإنكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل بذلك.